الكتابة عن التصوف تتطلب جهداً غير عادي للدخول في الفصل بين المفاهيم والمصطلحات والمعاني والدلالات واشتقاقاتها في معناه اللفظي والمجازي والتي اتسم بها هؤلاء بهذه الصفة والتطرق إلى منهجية الدراسة لتوضيحها أو الإمعان بها من أجل الوصول إلى جوهر التصوف وأبعاده الكونية الإلهية فلا بد لأي دارس لهذه الظاهرة من دراسة الفكر الإسلامي، فقد كثرت الدراسات حول هذا المفهوم والمصطلح وأمعن بعض الدارسين في تكوين رؤية إسلامية لهذا التصوف إلا أن أغلب الدراسات لم تصل إلى دراسة جادة تضع النقاط على الحروف من أجل تفسيرها وبيان مكوناتها.
فتكثر المصطلحات واشتقاقاتها فمنهم من يقول: أن الصوفية جاءت من أهل الصفة الذين يعزفون عن الدنيا والعيش مع اللذات الإلهية التي جاء بها القرآن الكريم، وفي موضع آخر يأتي معنى التصوف من الصوف الذي يلبسونه للخشونة وهذه مجاهدة للنفس التي يريدون من خلالها الوصول إلى العبادة المطلقة وهم أهل الورع والتقوى.
ومنهم من يقول (إن التصوف جاء من الصفة التي اتصف بها العابد والورع بجملة من المحاسن واعتماد الأوصاف المحمودة وترك الأوصاف المذمومة)، ويشير القشيري إلى كلمة التصوف بأنهم أهل الصفوة إلا أن العديد من ينكر ذلك بأن هذا اللفظ لم يشيع في عهد الصحابة والتابعين الذين كانوا في حالة صفاء روحي بل تضاف إلى جملة المصطلحات التي أُحدثت مثل النحو والفقه والمنطق.
ومن التعاريف التي ترامت من القواميس والمخزون المعرفي بأن التصوف كما ورد في الرسالة القشيرية (التصوف ألا تملك شيئاً ولا يملكك شيء)، وفي طبقات الصوفية قال النوري (ليس التصوف برسوم ولا علوم ولكنها أخلاق) فالصوفية هي تجمع معاني ومبادئ الأخلاق وهي (ضبط حواسك ومراعاة أنفاسك) فالتصوف علم لدني وفلسفة ليس ككل الفلسفات التي تقوم على المنطق، وهو موهبة ربانية فالمتصوف شأنه شأن أي مدافع عن مذهبه.
وهو فلسفة الإسلام الدينية إلا أن التطرق إلى الدخول في عالم الصوفية ليس بالشيء اليسير ولأن الدروب التي سلكوها شاقة.
ويقول أحدهم: (التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق) ومن التعاريف اللغوية تشير كلمة (Mystic) في اللاتينية يقابلها في العربية (صوفي).
فبقي اشتقاقها مرهوناً بالمدلول الديني، وهو من الصفاء ويشير القشيري أيضاً اشتقاقها من الصفاء بعيد عن مقتضى اللغة ويضيف أيضاً (مثل قول من قال أنه من الصوف) والتصوف أي ليس الصوف مثل (تقمص) إذا ليس القميص ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف.
إلا أن ما قبل ظهور الإسلام لم يظهر هذا المصطلح وحتى في صدر الإسلام، فنلاحظ أن هذا المصطلح ظهر في عهد الخلفاء الراشدين والصحابة التابعين ففي صدر الإسلام لم يكن الناس بحاجة إلى دراسة الورع والتقوى، بل كانوا كلهم مجاهدين ومقبلين على العبادة بطبيعتهم وبحكم قرب اتصالهم برسول الله فهم يتسابقون ويتبارون في الاقتداء به، فلم يكن ثمة ما يدعوهم إلى تلقين علماً يرشدهم في الاقتداء به، مثل العربي يعرف اللغة العربية بالتوارث كابر عن كابر حتى أنه ليقرض الشعر البليغ بالفطرة دون أن يعرف شيئاً عن قواعد اللغة العربية والنظم، فمثل هذا لا يلزمه أن يتعلم النحو ودروس البلاغة ولكن دروس البلاغة تصبح لازمة وضرورية هي وغيرها من القواعد والعلوم عند تفشي اللحن وضعف التعبير أو لمن يريد من الأجانب أن يتفهمها ويتعرف عليها أو عندما يصبح هذا العلم ضرورة من ضرورات الاجتماع كبقية العلوم التي نشأت وترعرعت وتم تأليفها على مر العصور، فالصحابة لا يتسمّون باسم المتصوفين بل كانوا يعيشون هذه الحالة وتظل المذاهب والرؤى هي حتمية الفعل والمتغيرات والحراك الاجتماعي يلعب دوراً رئيسياً في ذلك.
وعندما دخلت إلى الإسلام أمم شتى وأجناس عديدة واتسعت دائرة العلوم وتقسمت وتوزعت بين أرباب الاختصاص قام كل فريق بتدوين الفن والعلم الذي يجيده دون غيره فنشأ علم التوحيد وعلوم الحديث وأصول الدين والتفسير والمنطق ومصطلح الحديث وغيرها كثير فأصبح بعد هذا العصر يتضاءل التأثير الروحي شيئاً فشيئاً فأخذ الناس يتناسون ضرورة الإقبال على الله بالعبودية مما دعا أرباب الرياضة والزهد أن يعملوا على تدوين ذلك من ناحيتهم أيضاً على تدوين علم التصوف وإثبات شرفه وجلاله وفضله على سائر العلوم ولم يكن ذلك احتجاجاً على انصراف بعض الطوائف الأخرى إلى تدوين العلوم كما يزعم بعض المستشرقين بل كان كما يجب أن يكون سداً للنقص واستكمالاً لحاجات الدين في جميع نواحي النشاط أن أول من أسس أُسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس من الدين المحمدي إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي ( بعد ما بينها واحداً دينا بقوله هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم وأورد صاحب كشف الظنون في حديثه عن علم التصوف كلاماً للقشيري قال فيه: اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله ( لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم صحابة الرسول ( إذ لا أفضلية فوقها فقيل لهم الصحابة، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين كما يضيف القشيري في رسالته أنه يجب عدم التركيز على الاشتقاق اللغوي إنما سمي الصوفية صوفية وذلك لتميزهم عن غيرهم من أصحاب الحديث واللغة والتفسير وعلم الكلام وغيرهم ويقول أبو يزيد البسطامي مخاطباً المتفقهين وأصحاب العبارة (أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت) فالفقيه يؤكد على روايته فيقول حدثني فلان عن فلان عن فلان والصوفي يقول حدثني قلبي عن ربي فشتان بين القولين فالأول أخذ علمه عن من مات فأين فلان هذا الذي مات فالصوفي يقول أخذت علمي عن الحي الذي لا يموت.
ويواجه عالمنا الإسلامي بعامة والعربي خاصة واستخدام المصطلحات الغربية وهي أن يفعل الإنسان أي شيء في حدود القانون الوضعي المتغير لا في حدود شريعة الله الثابتة. وكثيراً من الحريات في القوانين الوضعية الغربية والتي تتمثل في حرية الرأي مثلاً تتيح للمشركين بالله أن ينشروا دعاويهم على الناس فيستجيب لهم بعض الجاهلين فيزعمون أن الطبيعة خلقت نفسها بنفسها ولا أثر للخالق.
فعلى النقيض من ذلك نجد الماديين ينضمون تحت ألويتهم شريحة واسعة بلا وعي ويحاكموا ذلك الفكر الملحد الذين يدعون أن الإله والكون مادة.
كما تتيح الحرية في مفهومها الغربي حرية ممارسة الجنس الواحد (المثلية الجنسية) وهذا أسوأ ما انحدر إليه مفهوم الحرية عند الغربيين.
وهناك فريق كبير لا يستهان به من المجتمعات الغربية التي تسخر من بعض الشعائر الدينية الإسلامية ومنها مثلاً الحج والطواف حول الكعبة بأنها لا فائدة من تلك العملية ولكن ألا نسخر منهم عندما يطوفون حول ضريح لينين وتقبيل تمثاله ويطوفون حوله.
وكذلك الصيام الذين لا يؤمنون به ويروون أنه عادة غير نافعة ولكن أين هم من الصيام البوذي للمجتمعات الأخرى هذا هو الإسلام وتعاليمه ستظل قائمة ما دام هناك من يناشد أمة الأرض أن لا إله إلا الله ولا يمكن أن يزول حتى يرث الله الأرض ومن عليها. هذه تعاليم الإسلام وهذه الشريعة الكاملة والمرنة كل المرونة وهي مصدر لكل القوانين والتشريعات ومصدراً لكل العلوم الدنيوية والأخروية.
وإذا كانت مهمة دعاة الإسلام المخلصين أن يعيدوا لهذا الدين روحه وأن يفتحوا له مغاليق القلوب فما قصد الصوفية في كل عصر وزمان إلا بالعودة بالمسلمين إلى ظلال الأنس بالله ونعيم مناجاته وسعادة قربه بإرجاع روحانية الإسلام إليه دون تطرف وتعصب واعتداء بل هو رسالة لكل مكان وزمان وإذا كان خصوم الإسلام قد عملوا على تشويه معالمه فوصموه بالجمود والقصور واتهموا أتباعه بالرجعية والتأخر ومن ثم صبوا عليه حملاتهم المغرضة بأساليبهم المدروسة المبتكرة فتارة يشككون الناس في المذاهب الفقهية المعتمدة وتارة أخرى يطعنون في بعض رواة الحديث من صحابة رســول الله ).
ويلفت الأنظار الطعن المقصود والهجوم العنيف على التصوف الإسلامي وما ذلك إلا جوهر الإسلام وروحه النابضة وحيويته الفعالة فلقد أراد المبطلون تشويه معالمه وتصويره فلسفة خيالية وضعفاً وزهداً وانعزالاً وذلك يعتبرونه ابتداعاً خرافياً. ولكن الله أبطل دعواهم وأذن لدينه بالحفظ والبقاء فتحطمت أقلامهم وذهبت الريح بدعواهم وبقي التصوف منارة السالكين إلى الله تعالى فهو خلاصة من القيم والأخلاق المكتنزة بالخصال الروحية الحميدة. فبدأت الرسالة مع الرسول العربي الكريم بـ(اقرأ) واقرأ لها دلالتها إذ هي من الله عز وجل عن طريق جبريل الأمين عليه السلام ولم يكن الرسول بقارئ لكن جبريل عليه السلام قال له كماء جاء في الآية الكريمة: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم( بدأت الدعوة الإسلامية إذن بعلم وهبي وهَبَه الله تعالى للرسول( بلا مكابده ولا معاناة ولا تحصيل ولا اكتساب إنما بوحي منه تعالى فمن آمن بالله خالقاً وبالرسول نبياً ومبشراً ونذيراً فإن عليه أن يؤمن بالعلم اللدني الذي يأخذه المؤمن من الله بلا واسطة أو حجاب وإذا كان هذا العلم لا يحظى به إلا طبقة خاصة وهم المؤمنون إلا أن ذلك ليس معناه أن ينكره الحاقدون والطاعنون في الإسلام.
لقد أخذ الصوفية بالعلم اللدني وفتح لهم بعض أسرار الله وكشفت عنهم بعض الحجب وعاينوا بعض النعم والمعارف الإلهية يقظة ومناماً وذلك اقتداء بشخصية الرسول لأنهم واكبوا سنته المباركة وساروا على هديه وتطبعوا بطباعه وحاكوه في سلوكياته ومشوا على أثره وهكذا كان التابعون بعد الصحابة على قدم رسول الله ( ولذلك نجح المسلمون في عصر الإسلام الزاهرة في قيادة العالم كله علمياً وأخلاقياً وسلوكاً علمياً لأنهم استنوا بسنة الرسول( في تفكيره وفي مأكله ومشربه وملبسه ونظرته إلى الدنيا وطلبه الآخرة ولم يضعف المسلمون ولم يهنوا إلا عندما تركوا شريعة الله فتكالبوا اليوم على المال والرياش.
وفي هذا المعنى يحدثنا الرسول يقول أتاني جبريل بمفاتيح خزائن الأرض فو الذي نفسي بيده ما بسطت إليها يدي، لو علم المشرع أن المال يمكن أن يكون غاية للإنسان لبسط يده إلى مفاتيح خزائن ولو علم فيها خيراً له ولأمته ما تركتها أبداً ولبسط يده إليها فأخذها ونعم بها لنفسه وصحابته وأمته جميعاً لكنه تزهدت نفسه في الدنيا ونعيمها بعد أن أطلعه الله سبحانه وتعالى على حقيقتها.
لقد كره الرسول هؤلاء الذين اغتروا بالدنيا وجعلوها جل همهم فعبدوا الدراهم والدينار وسماهم بالأشرار ويقول فيهم: شرار أمتي الذين ولدوا في النعيم وغذوا به همهم ألوان الطعام وألوان الثياب يتشدقون بالكلام.
حدد لنا الرسول الشر والأشرار وبين لنا أنهم المنغمسون في الرفاهية والتنعم على حساب المثل العليا والمعايير الأخلاقية والآداب وأن هذه الحياة التي يعيشون فيها لا خير فيها لأمته من بعده.
فالصوفيون لا يهتمون بما يحدثونه من كرامات وخرق عادات ما لم تكن على الشريعة فلا يعول على من يمشي على الماء أو يطير في الهواء أو يأتي بفاكهة الصيف في الشتاء ما لم يكن مؤدياً لحقوق الله آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر متأدباً بآداب الله لأنه يجوز أن تكون الكرامة امتحان له من الله واختبار لمعدنه فلا يفتن عندما ينعم الله عليه ببعض هذه الكرامات خوفاً من الافتتان والعبودية لله .
يمكن أن يستكشفها المؤمن وغير المؤمن لأنها مسخرة لكل إنسان في الأرض ما دام يسعى ويمشي في مناكبها بالدراسة والتحصيل والتجربة والنظر وأما العلم المدني فلا يمكن أن يحظى به إلا من اتبع كتاب الله وسنة نبيه في أقواله وأفعاله وأعماله وسلوكه وهذا ما فعله صوفية أهل السنة فذاقوا بعض نعم الله فليس من ذاق كمن لم يذق وفي ذلك يقول الجنيد (لو علم الملوك ما نعانيه (نحظى به) من لذات ونعيم لجلدونا بالسيوف) ويقصد الإمام الجنيد بهذه الإشارة أن الصوفية يتذوقون لذات وينعمون بثمرات ويفيض عليهم الله سبحانه وتعالى بتجليات ويحظون بأسرار ويفتح الله عليهم بمنن وعطايا وهبات ومبشرات لو علم بها ملوك الدنيا وحكامها وقادتها لحاربوا أهل الطريق والعارفين بالله حرباً لا هوادة فيها ولو باستخدام الأسلحة والمكائد والمخادعات ليحظوا ببعض ما يحظى به الصوفية من هذه اللذات ومن ذلك النعيم الذي يتفضل به الله عليهم دون غيرهم هذه ليست دعوة للانغلاق على الذات الإسلامية والتطرف في بعض جوانبها أو في كليتها وليس مناشدة لإلغاء كل العلوم والعيش في حياة الزهد دون التنعم بالحياة التي خلقها الله للطيبين وكلوا من طيبات ما رزقناكم كما يشير الغزالي في هذا الجانب أن المؤمن والمتصوف كان زاهداً وتاركاً ملذات الدنيا التي أنعم الله بها على عباده ونعم بها الكافر، إذ لا رهبنة في الإسلام وبين هذا وذاك يمكن أن نستقي من خلال هذا الاستعراض لمفهوم التصوف وحدوده أهمية الأخلاق والمبادئ والنظم التي جاء بها الإسلام في سنن وشرائع تستمد منها كل السنن والشرائع الوضعية، فكان الإسلام تشريعياً اجتماعياً واقتصادياً ودروساً وعبر ضمن منهجية وأسس وصيغ معاصرة تتوافق وحركة المجتمع.
فالتصوف لم يسلم من الدس والتحريف من هؤلاء الدخلاء، فمنهم من أدخل في كتب الصوفية أفكاراً منحرفة وعبارات سيئة ما أنزل الله بها من سلطان ومنهم من أراد أن يفسر دين المسلمين بأشياء أخر تمس عقائدهم فنسب إلى بعض رجال الصوفية أقوالاً تخالف عقيدة أهل السنة كالقول بالحلول والاتحاد وبأن الخالق عين المخلوق والمكون.
ومنهم من حاول تشويه تاريخ الصوفية ونزع ثقة الناس بهم فدس في كتبهم حوادث وقصص من نسج خياله فيها ارتكاب المنكرات واقتراف للآثام والكبائر كما نجد ذلك كثيراً في الطبقات الكبرى للإمام الشعراني عنه وهو منها بريء..
ومنهم المبشرون والمستشرقون وأبواق الاستعمار الذين درسوا كتب السادة الصوفية وكتبوا عنهم المؤلفات لأجل التحريف والتزوير والدس يقصدون بذلك أن يطعنوا الإسلام في صميمه وأن يسلخوا روح الدين عن جسده.
ولا أدري كيف يثق مسلم صادق بأقوال عدوه المخادع الماكر.
ومنهم السذج الذين يصدقون هؤلاء وهؤلاء فيعتقدون بهذه الأمور المدسوسة وبثبوتها في كتبهم وكل هذا بعد عن الصوفية والتصوف فإن قال قائل أن ما نسب إلى الصوفية من أقوال مخالفة هي حقاً من كلامهم بدليل وجودها في كتبهم المطبوعة المنشورة.
نقول: ليس كل ما في كتب الصوفية لهم لأنها لم تسلم من حملات الدس والتحريف وما أحوجنا إلى تضافر جهود المؤمنين المخلصين لتنقية هذا التراث الإسلامي خاصة والعربية عامة مما لحق به من دس وتحريف.
يعتبر العلامة ابن خلدون رائد علم الاجتماع أن التصوف الإسلامي علم من العلوم الشرقية الحادثة في الإسلام والتصوف الإسلامي في نظري له أصول عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم فطريقة الصوفية إنما هي طريق السلف الصالح وهو طريق الحق والهداية والتصوف في رأي ابن خلدون أصله العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه العامة من الناس من اللذات وطلب المال والجاه ولقد كان الصحابة كما أورد ابن خلدون ينفردون عن الخلف في الخلوة للعبادة ويقول أن ذلك كان عاماً في الصحابة والسلف الصالح.
ويبين لنا أن ابن خلدون في مقدمته أن السبب في شيوع اسم الصوفية راجع إلى أنه قد تفشى الإقبال على الدنيا في القرن الثاني الهجري وبَعُد كثير من الناس عن العبادة وجنحوا إلى مخالطة أهل الدنيا. لذلك اختص المقبلون على الله العكوف على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة وكأن ابن خلدون يرد على مزاعم بعض المستشرقين والمستغربين عندما يتقولون على الصوفية ويدعون أن هذا التصوف لا أصل له من الشريعة فيقول في ذلك (وسار علم الشريعة على صنفين).
1- صنف اختص به الفقهاء وأهل الفقه وهو الأحكام العامة في العبادات والمعاملات.
2- صنف اختص به الصوفية وهو في القيام بالمجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام وفي الأذواق والمواجد وكيفية الترقي من ذوق إلى ذوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك. فلما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقه وعلماء الكلام في الكلام وعلماء التفسير في التفسير دوّن رجال من أهل التصوف كتباً في الورع ومحاسبة النفس ويستشهد في ذلك بما فعله القشيري في كتاب الرسالة والسهر وردي في كتاب (عوارف المعارف) كما جمع الإمام الغزالي بين الأمرين وذلك في كتاب (إحياء علوم الدين) كتب الإمام الغزالي عن الورع والاقتداء ثم بين آداب الصوفية وسننهم وشرح اصطلاحاتهم وأدق معارفهم وأصبح علم التصوف الإسلامي علماً مدوناً بعد أن كان التصوف عبارة عن عبادة فحسب والحقيقة أن التصوف مثله في ذلك مثل علم الفقه والكلام والتفسير والحديث كان علماً يتلقى من صدور الصحابة والسلف وإن لم يكن في القرن الأول والثاني قد دون مثل كثير من العلوم الإسلامية إلا أنه كان على الحقيقة موجوداً في صدور الصحابة والتابعين وتابع التابعين لقد كان الشغل الشاغل للصحابة في الصدر الأول للإسلام هو العمل الجاد على حفظ وترتيب القرآن بالسنة ثم أصبحت الحاجة ماسة إلى تدوين العلوم فدونت علوم الفقه والتفسير والحديث ثم نشأ على الكلام ثم التصوف أو كما يسميه ابن خلدون (الطريقة) أو آداب القوم إن المجاهدة والخلود والذكر.
ويستنتج ابن خلدون من ذلك أن المريد في الطريق الصوفي يتحصل في كل مجاهدة على كل حال أي نتيجة لتلك المجاهدة وذلك الحال أما أن يكون عبادة تترسخ في نفسه فتصير له مقاماً وأما أن تكون صفة للمريد وهذه الصفة تكون حاصلة للنفس كأن تكون حزناً أو سروراً أو كسلاً أو نشاطاً إلى غير ذلك من مقامات وينتهي ابن خلدون إلى القول إن المريد ما يزال يترقى من مقام إلى مقام إلى أن يصل في النهاية إذا صدق إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة فالهدف النهائي للمريد الصادق في الطريق الصوفي هو الوصول إلى التوحيد وشهود أن لا إله إلا الله ويؤيد ذلك بالحديث النبوي من قول الرسولمن مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة وينبه على أن الترقي من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام لا بد أن يبدأ بالإيمان والطاعة والإخلاص وهنا تصاحب مجاهدة المريد الأحوال والصفات وتأتي عنها نتائج وثمرات فإذا وقع تقسيم من المريد أو خلل في الثمرات التي يتحصل عليها فإنما ذلك تتاح لالتفات المريد الحظوظ الدنيوية أو لوجود آفات كالخواطر النفسية أو الشيطانية لذلك يحتاج المريد إلى إعادة النظر إلى نفسه وعلاج عيوبها والرجوع إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله لأن النتائج مقترنة بالأعمال.