وعرفت رابعة "بالروحانية" الذين يغلب على قلوب المنتمين لها حب الله, وتعتبر الروحانية مقاما من مقامات الرضا يباح للروحاني الاطلاع به على ملكوت السماء ويسرح فيه مع الملائكة, فإذا خرجت النفس من الروح يكون روحانيا, وإذا خلا العقل عن القلب يكون ربانيا. وهنا اتهمها البعض بالزندقة, واتهمها البعض الآخر بالكفر, مع أن الروحانية التي دعت إليها رابعة ليس فيها أي اتجاه إباحي, ولم يوجد فيه أي ظل لزندقة أو إلحاد أو بدعة, وهذا يرد على بعض المغرضين الذي وصفوا روحانية رابعة وبعض جماعتها من المتصوفين بالزندقة و حدث لغط حول زواج رابعة, إلا أن المؤرخين رجحوا عدم زواجها ورفضها كل من طلب يدها, وهذا ما يؤكده "د. عبد الرحمن بدوي", وأكبر دليل على ذلك أنه لما خطب "عبد الواحد بن زيد" الصوفي المعروف رابعة, حجبته أياما حتى سمحت أن يدخل عليها فقالت له: " يا شهواني, أطلب شهوانية مثلك .. أي شيء رأيت فيّ من آلة الشهوة". كما رفضت الزواج من " محمد بن سليمان الهاشمي" أحد أمراء البصرة وردت عليه: " الزهد في الدنيا راحة البدن, والرغبة فيها تورث الهم والحزن, فهيئ مزادك, وقدم لمعادك, وكن وصيّ نفسك, ولا تجعل الرجال أوصيائك, فيقتسموا تركتك, وصم الدهر, واجعل فطرك الموت, وأما أنا فلو خولني الله أمثال ما حزت وأضعافه, فلم يسرني أن أشتغل عن الله طرفة عين والسلام.وكانت لا ترى الزواج يصلح لها, بل ترى استحالته بالنسبة لها, لأنها في شغل بالمهم من أمور الآخرة, والحياة الروحية ومسائلها, فأنّى لها تفرغ للزواج والحياة الدنيا, وما حكاية زواج رابعة إلا أسطورة نشأت عن الخلط بين "رابعة إسماعيل الشامية" زوج "أحمد بن أبي الحواري" ورابعة إسماعيل العدوية البصرية, وهذا القول ما يؤكده قولها لأبي الحسن البصري:
راحتي يا إخوتي في خلوتي=وحبيبي دائما في حضرتي
لم أجد عن هواه عوضا= وهواه في البرايا محنتي
حيثما كنت أشاهد حسنه=فهو محرابي إليه قبلتي
يا حبيب القلب يا كل المنى=جد بوصل منك يشفي مهجتي
يا سروري وحياتي دائما= نشأتي منك وأيضا نشوتي
قد هجرت الخلق جمعا أرتجي=منك وصلا فهو أقصى منيتي
حجّت رابعة غير مرة, وتدرجت في إدراك معاني الحج على مراحل, فقد كان الحج بالنسبة لها في بداية الأمر عبارة عن أداء مناسك والقيام بركن من أركان الإسلام الخمسة بكل ما فيه من عبادات روحية وحسية ظاهرة وباطنة تطوف ببيت الله الحرام داعية باكية مستغفرة تتعلق بأستار الكعبة طالبة العفو والتوبة, وكانت تقوم به بالحج على راحلة. ثم ارتقت في رمزية الحج فأخذت تخرج للحج ماشية حافية لتشعر بالألم والمعاناة والعذاب فداء لله وحبا في الله, ثم وصلت إلى أعلى درجات التجرد المجرد عن كل معنى حسي ودنيوي, حيث كانت رابعة تجرد الصور من معانيها المادية المحسوسة وتردها إلى معانيها الروحية العالية وأصبحت الكعبة بالنسبة لها رمزا لرب الكعبة وأنها تحب الحج حبا في الله, ورغبتها في التقرب إليه والقرب منه, ورؤية وجهه, حيث كانت تقول في هذا المقام " الجار قبل الدار, وأنا لا أريد الكعبة, بل رب الكعبة, أما الكعبة فماذا أفعل بها"وامتد العمر برابعة حتى بلغت الثمانين, ومنهم من قال أنها بلغت السادسة والثمانين حيث توفت عام 180هـ أو 185هـ, فوهن جسمها واعتلت صحتها, ولكن عقلها ظل على المعهود من حيويته, وظلت المرشدة الروحية لكل من قصدها من الزهاد والعباد والمريدين. لقد كانت رابعة مستغرقة في حبها لله, شديدة الشوق واللهفة له, وكانت تحس بنار الحب الإلهي متأججة في أعماقها وكأنها تلسعها, وكانت تقول: "محب الله لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه و أصبحت رابعة كثيرة البكاء والنواح في أيامها الأخيرة, ولما سألها أصحابها عن سبب بكائها قالت: "إن شفائي أصبح متوقفا على لقاء المحبوب." كانت رابعة في البداية تخاف ذكر الموت إلا أنها في حياتها الأخيرة كانت تقول إذا أقبل عليها المساء هذه ليلتي أموت بها, فلا تنام حتى تصبح, وتقول للنهار كذلك حتى تمسي. وكانت لا تخاف الموت ولكنها كانت تخاف ألا تكون جديرة بعد بلقاء الله. كانت رابعة تضع أكفانها أمام ناظريها حتى لا يغيب عن بالها أبدا ذكر الموت نزولا عند قول رسول الله" أكثروا من ذكر هادم اللذات"و ذكر عن "عبدة بنت شوال" وكانت تخدم رابعة قالت, أن رابعة لما حضرتها الوفاة دعتني فقالت: " يا عبدة, لا تؤذني أحدا بموتي, ولفيني في جبتي هذه, جبة من الشعر التي كانت رابعة تتهجد بها في الليل" فقالت عبدة: فكفناها في تلك الجبة وخمار صوف التي كانت تلبسه."
و لقد ماتت رابعة على زهدها حتى عند وفاتها لم تشأ أن تشغل أحدا ولا تزعج فردا بشأنها, ولكن الله جل جلاله أكرمها بأن أرسل إليها طائفة من العباد الصالحين والصالحات التفوا حولها. ثم أكرمها الكرم الأعظم بأن أرسل إليها من رحمته رسلا للبشرى, فقد ذكر أنه لما حضرتها الوفاة قالت لأصحابها: " انهضوا واخرجوا ودعوا الطريق مفتوحة لرسل الله." فنهضوا جميعا وخرجوا, ولما أوصدوا الباب سمعوا صوت رابعة وهي تنطق بالشهادة فأجابها صوت مسموع: " يا أيتها النفس المطمئنة, ارجعي إلى ربك راضية مرضية, فادخلي في عبادي وادخلي جنتي.", فما لفظت النفس الأخير, تجمع أولئك الصالحون حولها وغسلوها وصلوا عليها ودفنوها في مقرها الأخير في البصرة.
تقول عبده: رأيت رابعه بعد وفاتها بسنة عليهاحله من استبرق خضراء وخمار من سندس أخضر ولم أر شيئا أحسن منه وقالت لها: يارابعه ما فعلت بالجبه التي كفناك فيها والخمار الصوف ؟
قالت : إن نزع عني وأبدلت به هذا ثوباً آخر،وطويت أكفاني وختم عليها ..ورفعت في عليين . فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا ؟
قالت: وما هذا عندما رأيت من كرامه الله لأوليائه، فقلت مريني بأمر اتقرب به إلى ا لله ؟
قالت : عليك بكثرة ذكره فيوشك أن تغبطي بذلك في قبرك
أما ما ذكره قدماء المؤرخون من أنها دفنت في قبر على "رأس جبل طور زيتا ـ بيت المقدس", فهذا خلط بينها وبين رابعة الشامية زوجة أحمد بن أبي الحواري, أما رابعة العدوية البصرية فلم يعرف عنها أنها غادرت بلدتها البصرة إلا بحج, فإن كان لها قبر فلا يخرج من حدود البصرة.
وعلى هذا النحو طوت رابعة العدوية طريقها التي طالت بها وطالت حتى أفضت إلى غايتها المنشودة, وما زال لذكر رابعة في النفوس ما للعطر من شذى, ولها البقاء الذي ليس له من فناء ما دام للإنسان روح وللقلب حنين إلى التقوى والمحبة الإلهية التي تسمو عن هذا العالم المادي إلى العالم العلوي الروحاني. فلرابعة ذكر لا نسيان له على طول الزمان عند أهل التقوى واليقين والإيمان.أهل الأشواق والأذواق، أهل الإحسان وأهل حقيقه الإيمان، وتركت بصماتها واضحه في فكرهم وشعرهم، وفتحت للمحبين آفاق واسعة يطلون منها على أسرار لا تترجمها الكلمات بل يشعر بها كل من سجد قلبه لله
رحم الله رابعه ورضي عنها وجمعنا بها معإمام المحبين وساقي كؤوس المحبة لأهل الصدق نبينا محمد صلى الله عليه وعلىآله وصحبه وسلم .