وفي إحدى الليالي صحا سيدها على صوت مناجاة, فتتبع الصوت فرأى رابعة في مخدعها تصلي وتدعو ربها أن يخلصها من هذه الحياة التي تعيشها, ثم رآى قنديلا معلقا في الهواء يدور فوق رأسها ويملأ الغرفة نورا وضياء, فذهل لما رأى وارتج جسمه وتسمرت عيناه وخارت قواه وقدماه, وعندها فتح عليها الباب وقال لها: " يا رابعة أنت حرة طليقة منذ هذه الليلة, ولك الخيار في البقاء في منزلي معززة مكرمة أو الرحيل إلى مكان آخر ترغبينه", ففضلت الرحيل , وخرجت في اليوم التالي إلى الصحراء هي وجارية أخرى تدعى "عبدة بنت شوال" لتعينها في حياتها, فابتنت لنفسها كوخا صغيرا في أطراف البصرة, وأقبلت بكل كنوز قلبها على الصلاة والمناجاة والعبادة, وعندما ترددت في أعماق نفسها نوازع الحيرة والقلق, أخذت تلوذ بالمساجد وتتردد على ساحات الصوفية وحلقات الذكر تستمع إلى أقوال الوعاظ والزهاد, فترك هذا كله في نفسها أثرا عميقا, وسبب لها صراعا نفسيا جعلها تبحث عن عشيرتها وتفتش عن أقاربها, فقابلت الزاهد العابد " رباح القيسي", فأخذ بيدها وهداها إلى طريق الزهاد والعبادة, وعرفها على زاهدة تعدّ من أكبر عابدات البصرة آنذاك تدعى " حيونة", حيث أنها من تلاميذة الزاهد الصوفي " عبد الواحد بن زيد", الذي هو أستاذ رباح القيسي في الوقت نفسه, فعلمت رابعة قيام الليل حتى بلغت مقام الحب الإلهي وهكذا بدأت رابعة الطريق تتضح لرابعة شيئا فشيئا, وبدأت تنعقد الصلات بينها وبين الرعيل الأول من رجال التصوف أمثال "مالك بن دينار, وإبراهيم بن أدهم, وسفيان الثوري, وعبد العزيز بن سليمان, وعبد الواحد بن زيد, وحبيب العجمي, وهكذا انتقلت رابعة من حياة العزلة في الصحراء إلى حياة تموج بالذكر والتسبيح والاستغفار ومليئة بالتأمل والحب الإلهي. . فهذه أبيات في إنشادها العشق الإلهي:
فليتك تحلو والحياة مريرة = وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر = وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين = وكل الذي فوق التراب تراب
لقد سلكت رابعة طريق الروح بخطى ثابتة كما سلكه معاصروها من العباد والزهاد, وتدرجت في مقامات التصوف مقاما مقاما, ابتداء من مقام التوبة والاستغفار الممزوج بالحزن والبكاء والتذلل بين يدي الله حبا في الله لا طمعا في جنة, أو خوفا من نار, حيث كانت تقول: " إلهي هذا الليل قد أدبر وهذا النهار قد أسفر, فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ, أم رددتها علي فأعزى!". وقد أجابت حين سئلت ذات مرة: أعملت عملا ترين أن يقبل منك! قالت: " إن كان, فخوفي أن يرد علي.
وقد أنشدت في هذا المقام:
وزادي قليل ما أراه مبلغي = ألزاد أبكي أم لطول مسافتي
أتحرقني بالنار يا غاية المنى =فأين رجائي فيك أين مخافتي
* كانت رابعة تصلى ألف ركعة في اليوم والليلة! فقيل لها: ما تريدين بهذا ؟ قالت : لا أريد به ثوابًا، وإنما أفعله لكي يُسرَّ به رسول الله يوم القيامة، فيقول للأنبياء: انظروا إلى امرأة من أمتي هذا عملها.
* سئلت رابعة: كيف حبك للرسول صلوات الله عليه ؟
قالت : إني والله أحبه حبًا شديدًا، ولكن حب الخالق شغلني عن حب المخلوقين.
* هتف رجل من العبَّاد في مجلس رابعة: اللهم ارضَ عني.
قالت رابعة : لو رضيت عن الله لرضي عنك.
قال : وكيف أرضى عن الله ؟
قالت : يوم تُسرُّ بالنقمة سرورك بالنعمة لأن كليهما من عند الله
ثم انتقلت إلى مقام الرضا والامتثال لإرادة الله والاستسلام لمشيئته والشعور بالأمن والطمأنينة في حضرته والقبول بالقضاء والقدر, حيث كان لرابعة مواقف كثيرة تعبر عن رسوخها في هذا المقام. وقد روي عنها أن "سفيان الثوري" قال ذات مرة وهو يزور رابعة: "اللهم ارض عني", فقالت له: " أما تستحي من الله أن تسأله الرضا وأنت غير راض عنه!", فقال: "استغفر الله", وأردف يسألها: "متى يكون العبد راضيا من الله؟", قالت: " إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة." ومن قولها أيضا في هذا المقام: "إني أستحي أن أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها" ثم ارتفعت رابعة إلى مقام المحبة والذي يعتبر أصل الإسلام وجوهره, وروح التصوف ومنبعه, وهو عند الصوفيين معراج لعلوم التصوف كافة, تلك العلوم التي تقوم على الفيض والكشف والذوق والإلهام, وفيه يصل المتصوف إلى مقام الإشراف على بحار الغيوب. ومن أقوالها في هذا المقام
حبيبي ليس يعدله حبيب =ولا لسواه في قلبي نصيب
حبيب غاب عن بصري وسمعي=ولكن في فؤادي ما يغيب
فليتك تحلو والحياة مريرة =وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر=وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين =وكل الذي فوق التراب تراب
أحبك حبين حب الهوى=وحبا لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى=فحب شغلت به عمن سواك
وأما الذي أنت أهل له = فكشفك لي الحجب حتى أراك
فما الحمد في ذا ولا ذاك لي =ولكن لك الحمد في ذا وذاك
يا حبيب القلب ما لي سواك= فارحم اليوم مذنبا قد أتاك
يا رجائي وراحتي وسروري = قد أبى القلب أن يحب سواك
ثم انتهت رابعة إلى مقام الخلوة وقطع العلائق والذي هو ثمرة المحبة الإلهية المتعمقة, وفيه يتخلل حب الله جميع الأعضاء واللحم والدم, فترتفع الحجب بين المتصوف والله ويحصل الكشف, وقد قيل أن هذا المقام لا يعلوه مقام إلا مقام النبوة.
ومن قولها في هذا المقام:
وتخللت مسلك الروح مني=وبه سمي الخليل خليلا
فإذا ما نطقت كنت حديثي= وإذا ما سكت كنت الخليلا
إني جعلتك في الفؤاد محدثي=وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس=وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي