محاضرات الملتقى الدولي الثاني للطريقة التجانية – قمار – الوادي – الجزائر
ا
لمحور الرابع : جهود علماء الطريقة في الفكر الإسلامي.
عنوان المحاضرة: ملاحظات وخواطر حول العلاقة بين العلم والعمل والعبادة.
المحاضر : الأستاذ منصف الأديب المأمون - تــونس
بسم الله الرحمان الرحيم و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا إمام العابدين.
سادتي الأفاضل أساتذتي الأجلاء. إنه فعلا لموقف مهيب، وإنه لعمري محط رهيب، أن أجدني مدعوا للحديث في جمع هو أشبه بالروضة الغناء، الحاوية لكل أنواع العلماء، منهم من بلغ من مدارك العقل المنتهى، ومنهم من جاوز إلى العوم في علوم الواهب بالاصطفاء و الاجتباء، فالحمد لله الواحد القهار الكبير المتعال، عالم الغيب والشهادة، أن وفقني في هذه المناسبة للمساهمة، بملاحظات وخواطر في العلاقة بين العلم و العمل والعبادة.
الحمد لله رب العالمين الذي أنزل في القرآن الكريم" اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم" وألهم الإمام البخاري أن جعل أول حديث في صحيحه عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
قال عز من قائل " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى المساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولائك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون" .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان" وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده و الناس أجمعين " كما ورد عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (...) قال " إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وبشروا ولا تنفروا واستعينوا بالغدوة و الرحمة وشيء من الدلجة " وكان أحب الدين إليه صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه صاحبه. قال صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة قلنا لمن يارسول الله قال :لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" وقال الله تعالى في العلم" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير". كما قال مرشدا حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم " وقل ربي زدني علما" .
والعلم هو الركيزة التي عليها يقوم العمل كما العبادة لقوله تعالى " فأعلم أنه لا إله إلا الله " فبدأ عز وجل بالعلم. وقال تعالى" وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" وقال عز من قائل " إنما يخشى الله من عباده العلماء" وقد جعل الله العلم أصلا للنجاة حيث قال في سورة الملك" وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير".
ولا يقل تواتر هذا المعنى في الأحاديث النبوية والسنة الشريفة حيث جعل صلى الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أن من سلك طريقا يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين إنما العلم بالتعلم" وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فسر قوله صلى الله عليه وسلم " كونوا ربانيين" بمعنى كونوا علماء فقهاء. ويقال الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كبارها. فمن كل الخيرات و النعم لم يطلب صلى الله عليه وسلم لابن عباس إلا العلم بكتاب الله فقد روي عنه رضي الله عنه أنه قال " ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اللهم علمه الكتاب". ومن كل الخيرات و النعم لم يعذر صلى الله عليه وسلم الحسد إلا في شيئين حيث قال فيما رواه سيدنا عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه " لا حسد إلا في اثنين رجلا آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ".
وبحر العلم في ديننا الإسلامي الحنيف كما في كل الأديان السماوية يتفرع إلى فرعين ويصب في رافدين العلم المادي الظاهري الذي يبحث في الأكوان ويتناول المحسوسات التي يدركها العقل بضوابطه وقواعده وقياساته واستنتاجاته ومقارناته وتشبيهاته وتفرعاته وتماثلاته عبر واسطة الحواس، والعلم الوهبي اللدني الذي لا يدرك إلا بالفتح، وله أشار سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه عندما قال" حفظت من رسول الله وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم". وهذا النوع من العلم الموصل إلى الحضرة الإلهية والذي يتجاوزه رفع الحجب عن الأكوان إلى الفتح الكامل المتعارف عليه لدى الكمل بالفتح الرباني لم يبق ممكنا إلا لدى أتباع شريعة خاتم الأنبياء المصطفى العدناني وما من طريقة أيسر منها ولا أسهل سلوكا ولا أبسط أدوات للوصول إليه من طريقة خاتم الأولياء أبو العباس أحمد التجاني. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " إنما أنا قاسم والله معطي" لكون جميع العلوم متفرعة منه. كما قال صلى الله عليه وسلم " لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم (...) حتى يأتي أمر الله "، إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى كون هذا الدين انتهى إليه العلم بفرعيه وورث السر بشقيه، فلا يقدره حق قدره إلا من يسره الله للغوص في بحر العلم والعوم فيه بمجاديف الفهوم .
إلا أن العلم لا يؤتي أكله ولا تنضج ثمرته إلا بالعمل. قال صلى الله عليه وسلم" ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل"، وقال تعالى في محكم تنزيله "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحيات ليبلوكم أيكم أحسن عملا ". فلا فائدة من طلب العلم إن لم يعمل به. وما خلق الله عز وجل الموت والحياة إلا ليرى أعمالنا. فكأن للعلم وظيفة يستمد منها قيمته ويكتسي بها صلاحيته وهي إنارة السبيل وتوضيح الطريق والتنبيه للخطر والتحذير من المهالك لكل عمل ولكل نية عمل." قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحيات الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا".ولذلك لم يجعل عز وجل الجزاء مرتبطا بالعلم وإنما رتبه على أساس العمل" من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" بل جعل العلم مع عدم العمل به من موجبات مقت الله وغضبه" يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تعملون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون". فما جدوى علمنا بحب الله للصدق إن كذبنا وما قيمة إطلاعنا على مساوئ الغيبة إن اغتبنا وأي بركة في معرفتنا ببغض الله للدنيا إن تنازعناها وأي فائدة من إلمامنا بمساوئ حب الرئاسة والرغبة في الظهور إن تنافسناهما ؟
فالغاية من العلم في ديننا الحنيف وشريعتنا الفيحاء توجيهه للعلم وترجمته إلى فعل. فإذا تم العمل بمقتضى نور العلم تنور القلب بنور بركة العمل" من عمل بما يعلم أورثه الله علم ما لا يعلم " فببركة العمل بعلم الشريعة يفيض الله على الصادقين من عباده أسرار (...) علوم الحقيقة وأنوارها .
ما من شك أن الأمر صعب إذ هو كمطالبة أحدنا بتجريع نفسه الموت فليس بالأمر الهين أن نسلخ أنفسنا مما جبلنا عليه إلى ما أمرنا به، وليس بالسهل اجتثاث مواطن الآفات في النفس حتى تصير قلبا ثم روحا ثم سرا، فهذا مما لا يقدر عليه إلا الرجال ولا يثبت له إلا الصادقين كيف لا وهو ما عناه بعضهم بالموت الأحمر" ومن الناس رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ".
لذلك أوصى الشيخ الأكبر رضي الله عنه في إحدى رسائله من كثر علمه وقل عمله بالاعتناء بأمور نفسه التي أوبقته (هناك كلام محذوف هنا) وقال لمن كسل عن صلاة الصبح " أترك سبحتنا عنك " وقال لمن علم تأصل داء الشح فيه" البوس و قلة الفلوس". ولذلك قال الخليفة سيدي الحاج علي التماسيني لإبراهيم الرياحي " هذا موطن سجود العقل" وهو من جملة معاني مسيحة سيدي الحاج علي فإذا كانت اللويحة رمزا للعلم فالسبحة رمز للعمل به حتى يصلح القلب لما تستجلبه السبحة من مزن الأرباح المالئة لكل متعرض من البحور و الأواني.
فبدون العلم يصعب العمل ويتعثر وبدون العمل لا يمكن للعلم أن يثمر أما إذا اجتمعا فعندها تنتج غلات العبادة وتظهر.
فالعبادة هي الهدف الذي يتوق إليه العارفون وتشد إليه رحال السالكين ،كيف لا وقد حصرها الحق تبارك وتعالى بقوله "وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون" وهي مرتبة لا ينال مداركها وأذواقها ولا يبلغ ذراها وآفاقها إلا من أعانه الله ووفقه إلى تجريع نفسه ترياق العمل بما يعلم وصبره وثبته ودعمه وقواه على إخضاع نفسه وإرغامها على أن تكون مطية مطيعة لحمل صاحبها على ترجمة معلوماته إلى أعمال وتحويل مقولاته إلى أفعال فيستحق بذلك الانتماء إلى زمرة "وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما والذين لا يدعون مع الله إلها أخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيها مهانا إلا من تاب وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات و كان الله غفورا رحيما ومن تاب وعمل عملا صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا والذين لا يشهدون الزور وإذ مروا باللغو مروا كراما والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما " ومقام العبودية هذا هو الذي عناه احد خلفاء القطب المكتوم سيدي الحاج حسين اليفريني في "خواتمه الذهبية" بقوله:
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
***
ومما زادني طربا وتيها
وان صيرت لي احمد نبيا
***
دخلي في قولك ياعبادي
ومقام العبودية هذا هو الذي بسط القول فيه احد خلفاء خاتم الأولياء سيدي الأحسن البعقيلي في شرحه لبعض جواهر "جواهر المعاني" عند تفسيره لمقصد صلاة الفاتح و ألفاظها في الصفحة 121 من الجزء الثاني من كتاب " الإراءة" حيث يقول " فحضرة العبودية وهي إضافة واحدة لها اعتباران وهو حقيقة الوصل لا غير فالمرتبة للعبد هي التي اتصلت بالإضافة إلى حضرة الإلهية وهي المقصودة فلا يصلها إلا أكابر العارفين وأما غيرهم إنما يدركون العبودية بألسنتهم ولا نصيب لهم في ذوقها"
لذلك فإننا لا نبالغ ولا نتعسف إذا حصرنا الفرق بين علماء الظاهر وعلماء الباطن وعلماء الشريعة وعلماء الحقيقة وعلماء الرسم وعلماء الذوق في كون أولئك يقتصرون على العلم بينما يتجاوز هؤلاء ذلك ويضيفون إليه إحياءه عبر العمل به " كان صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي ".
فما رتب صلى الله عليه وسلم الأوراد والأذكار للمشائخ إلا لحرث القلوب وعزقها وغربلة تربتها وتصفيتها وتنحية الطفيليات منها واستصلاحها حتى تلين وتستنير فتشفى من رعونة النفس وتذوب مراداتها في مرادات الحق جل وعلا ويسهل عليها العمل بما جاء به المصطفى. وإنه والله لعجب كل العجب أن نرى التقنيات والأدوات التي وضعت لتصفية العبادة من كل ما سوى الله تطلب لغاية الوصول إلى أغراض سواه.
سادتي الأفاضل أساتذتي الأجلاء أحباب وأصحاب وفقراء وخلفاء الشيخ التجاني الأعزاء ، هذا ما أدركه فهمنا المتواضع الذي لا نراه إلا نقطة في بحر فهومكم ووصلة رأينا الذي لا نخاله إلا ذرة في محيط معارفكم وعلومكم في موضوع دقيق في تفصيلاته وعزيز في مقتضياته ، كيف لا وهو يبحث في الترابط بين العبادة والعلم والعمل وهو ما يستوجب ملكتي العقل والذوق على الأقل، وإننا لا نخالنا جئنا بما هو جديد فحسبنا ويكفينا أن من الله علينا بملاقاتكم في هذا اليوم السعيد ، وصدق والله من قال "ملاقاة الأحباب عيد ".
فبارك اللهم لمن كان في جمعنا هذا سبب، وأفض عليه من خيرات الدنيا و الآخرة وبلغه ذروة المقامات والرتب، واجعلنا اللهم أهلا للانتماء لحضرة أبي العباس التجاني إمام الأولياء.
و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .