الدكتور محمد القهوجي
التصوف باعتباره حالة وفكرة نشأ مع نشأة الإنسان . فالإنسان منذ نشأته يتطلع إلى معرفة الغيب ، وإلى استشراف عالم ما وراء الطبيعة ، بل إلى الاتصال بذلك العالم ، ومعرفته ، عن طريق الوسيلة الصحيحة لذلك . فالتطلع إلى المعرفة الإشراقية ، لم ينشأ متأخرا . فالعقل هو العقل ، لا باعتباره معرفة كسبية . فالمعارف هي المكتسبة ، أما العقل فهو هو .
فلو أخذنا طفلا من البدائيين ، من مجاهل أفريقيا ، ووضعناه منذ ولادته ونشأته في أرقى الأوساط تحضرا ، لنشأ نشأة راقية متحضرة ، وبالعكس : لو أخذنا طفلا من أرقى الأوساط الأوربية تحضرا ، ووضعناه مع البدائيين منذ ولادته ، لنشأ نشأة بدائية . فالعقل الإنساني هو ، هو منذ أن وجدت الإنسانية إلى الآن ، والذي اختلف : المعارف الإنسانية المكتسبة ، والتصوف في وجوده وتحققه ، غير محتاج إلى معارف مكتسبة ، طبيعية أو فلكية ، إنه محتاج إلى أساس عقيدي صحيح ، وهذه العقيدة وجدت مع الإنسان الأول ، الذي سواه ا ونفخ فيه من روحه ، فهذه النفخة الإلهية ، أو هذه الروح ، أو هذا القلب الذي منحه الله إياه ، إذا ارتكز على أساس صحيح من الدين ، ثم جاهد في طريق التزكية ، والتصفية ، واتخذ الوسائل التي تؤدي إلى الاتصال بالملأ الأعلى ، فإنه ينتهي بتوفيق الله إلى ما يريد من هذا الاتصال ، وإلى ما يطمح إليه من ثمار الاتصال أي المعرفة .
ومعرفة ما وراء الطبيعة .. هو الأمل العذب الذي يراود الكثير من النفوس ، التي تريد أن تتنزه عن المادة وتصرح ربانية ، وبهذا نرى أن معنى التصوف موجود مع خلق الإنسان .