افتتاح الملتقى الدولي الثاني للطريقة التيجانية
(الجزائر، الثلاثاء 4 نوفمبر 2008)
أيها السادة الأفاضل،
أيها المرابطون عند منابع الذكر الطاهر، المتدثرون بالورع الباطن والظاهر، القائمون على رياض الحق، المعتصمون بحبل الله، العاكفون على نصرة النفس من طغواها بتقواها، ومن جحودها برضاها، الناءون عن مباهج الدنيا ومغرياتها، رجاء وطمعا في ثواب لا يحول، وبرّ لا يزول. أيها الكرام، شيوخا ومريدين، يا حفاظ الكتاب العظيم، والعاملين بسنة النبي الكريم، السلام عليكم جميعا ورحمة الله .
يطيب لي أن أزف إلى جمعكم الموقر أرق التحايا وعميق التقدير، وأنتم تحلون لى الرحب والسعة في دوحة الكرم والجود سوف النخيل، وإلى درة اليمن والصلاح مدينة قمار، قبلة العلماء والصالحين السالكين المتبتلين.
لقد زينتم بطيب وفادتكم هذه الربوع التي جئتم تحملون إليها رسالة حب في الله، والحب في الله ديدن المؤمنين الصادقين، رسالة توحد الكلمة وتجمع الشمل وتنير طريق النفوس المطمئنة الضامئة إلى رضا الله و إحسانه.
وإنه فضل عظيم أن من علينا بهذه المناسبة المباركة السعيدة في هذا اليوم المشرق الأغر.
وإني لأجد خيرا في هذا المقام الجليل زاوية التجانية التي تأسست على تقوى من الله وهداه. في أن أخاطبكم دون ذكر ألقابكم لأنه مقام تتضاءل بل تغيب فيه الألقاب لما يغمره من فيوض الرحمة و يجلله من نور الله و يظلله من أجنحة الملائكة ولما تكتب فيه من حسنات عندما يذكر فيها اسمه ذو الجلال والإكرام،" يا أيها الذين آمنوا أذكروا الله ذكرا كثيرا" " ألا بذكر الله تطمئن القلوب".
فما كان للشيخ درة العلماء والعارفين، الشريف العفيف أبو العباس أحمد التجاني طيب الله ثراه، أن يختار مدينة قمار لشرف الريادة إلا لما توسمه في آلها من علم مستنير ومن تربية قويمة على الهمة والذوق في الارتقاء بالنفس وترويضها على الإخلاص لله ولرسوله، ولما ألفته بطانة العلم والشأن فيهم من عزوف عن متاع الدنيا الفانية إلى ما يسمو بالروح ويطهرها.
هذه هي قمار كما تمثلها الشيخ التجاني، كعبة علم ودار صلاح. لقد رأت حلقة الذكر التجانية النور أول ما رأت في الصحن الشرقي القماري من عام 1789م، وكان الفضل فيها إلى رجال عاهدوا الله وأنفسهم على بث رسالة المحبة والإحسان بين الناس من أمثال الساسي القماري و أحمد بن سليمان التغزوتي وغيرهم رحمة الله عليهم.
ولقد جاء بحمد الله الفيض والمدد على يد خليفة الطريقة التجانية ووارث سرها الحاج علي التماسيني ، فربى رجالها على الهمة والذوق، علما و عبادة، وعملا وتلقينا، وسلوكا وذكرا، وهو من تكفل بتربية إبني الشيخ محمد الكبير ومحمد الحبيب بعد أن عاد بهما إلى قّرّة عين الطريقة عين ماضي حيث مسقط رأس الشيخ التجاني ومرتع صباه ومن بعد التماسيني جاء إبنه العيد فأعطى لزاوية قمار حقها من عناية آل الله المحسنين فأسسَّ بنيانها وشيد مسجدها وجعل من دورها ورحابها مجالس علم وذكر.
ثم شق هذا الفيض طريقه معرجا على تماسين وعين ماضي وتلمسان وأبي سمغون ، ومن هذه الربوع الطيبة نحو أروقة القرويين بفاس ومحاضر الذكر بشنقيط ومحراب الأزهر الشريف ورحاب مكة المكرمة والمدينة المنورة إلى سائر صروح العلم في بلدان المعمورة وليصبح من بعد ذلك بوتقة للملايين من عباد الله، الذين سلكوا سبل الهدى والرشاد.
أيها المجتمعون الكرام من مشايخ ومريدين وأتباع متطلعين إلى وميض النفحات الربانية والسبوحات الملكوتية في ظل هذه الطريقة العلية. لا يسعني إلا أن أسدي إليكم فاضل الشكر وعظيم الامتنان والتقدير على ما تبذلونه أولا من جهد لإعلاء كلمة الله من خلال بعثكم لهذا التراث المجيد منبع عزتنا وموئلُ كرامتنا.
وأشكركم ثانيا على توفيقكم بمنة الله في اختيار موضوع هذا اللقاء والذي حاولتم من خلاله الجمع بين التصوف الذي هو صفاء ووفاء ومحبة وشفاء، لحمة العلوم وسداها ومرجعها ومنتهاها، علم رباني لا يهب الله قبساته إلا لأصفيائه وأحبائه من الأولياء والصديقين والصالحين ، وبين موضوع العولمة التي أصبحت حديث الركبان شرقا وغربا، عولمة طويت معها المسافات والأبعاد وغدا معها العالم "قرية صغيرة" . ولكن هذه العولمة عجزت عن تحقيق تلك الأحلام والآمال التي كان ينشدها مروجوها الأوائل من توزيع عادل لثروات الأرض واقتصاد متوازن، وتسهيل مرور بني البشر عبر بلدان المعمورة دون حدود من خوف أو تضييق على الحريات. ولكن رياح العولمة أصبحت تهب بما لا تشتهي سفنها، فتفاقم العنف في العالم بما لم يعهد له مثيل في تاريخ المعمورة، وأصبح يهدد أمما كاملة كانت بالأمس هادئة آمنة.
أيها السادة الأفاضل،
لقد أصبح الحرص الشديد على الكسب والاقتناء والتفنن في الرّفاهِ سمة تسير علاقات البشر اقتصادا وسياسة واجتماعا ويولد في نهاية المطاف تنافسا فضيعا بين الناس.
وأمام هذا المشهد المخيف وقف الإنسان تائها حائرا، وقد تفرقت به السبل يجني ثمار ما غرست يداه من بذور الأنانية والإنفرادية.
وفي خضمّ هذه الظروف يأتي التصوف كطوق نجاة و كعلم رباني ، يحاول إصلاح ما أفسدته يد الإنسان . ولعل سرّ عودة العالم إلى العناية بالأخلاق ما رأوه في اتصاف أصحابها بتلك الرؤية السليمة للواقع، واتفاقهم مع كثير من المفكرين والعلماء، الذين يرون أن الأزمات المتعددة الأبعاد التي يمر بها الإنسان هي أزمات صنعها الإنسان بنفسه من خلال فكرة التّنافي. وليست أزمات فرضت عليه فرضا. وإذا أراد الإنسان أن يغير واقعه وحياته فعليه أن يغير ما بنفسه قبل حرصه على تغيير الآخر بالقوة والعنف،
إِنَّ اللهَ لاَ يُغيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) صدق الله العظيم)
إنّ محور التصوف ومداره ومقاصده تدور كلها حول معاني تلك الآية الكريمة، وهو تغيير النفس وتطهيرها من الأدران والخبائث والخواطر الفاسدة للالتزام بكتاب الله وسنّة رسوله سلوكا وإيمانا، والسعي إلى تطبيق الفرائض وتجنب النواهي والتخلق بالأخلاق السامية، لأنه من زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف. كما يدعو التصوف إلى المراقبة التي هي حضور القلب بدوام القرب، وحينئذ يترع قلب المؤمن بمحبة الله وخلقه، تلك المحبة التي أصبحت في معجم العولمة كعنقاء مغرب.
إن عالم اليوم يزخر و الحمد لله، بمؤلفات موثوق بنزاهة أصحابها وأهليتهم العلمية والتاريخية، التي تعلم علم اليقين، أن الإسلام قدم المثل الأعلى في التسامح وحرية المعتقد، وصون حقوق الإنسان، وحماية حرية الأوطان.
إلا أنه من المؤسف، أن نرى تمازجا صريحا بين بعض دوائر السياسة والمعتقد الديني في الغرب، تسوق لحرب صليبية ضد الإسلام تحت طائل الإرهاب الأصولي.
وإنا لندعو هذه الدوائر بشقيها الديني والسياسي، إلى كلمة سواء، بتحكيم العقل في التاريخ، والفصل الصريح بين الإسلام عقيدة سمحة، وحضارة إنسانية، وبين المنتسبين إلى الإسلام انتسابا، ومتخذين التطرف الديني الذي هو بدعة في كل الأديان شعارا لهم، والدين منهم براء.
أيها السادة الأفاضل،
إننا جزء من هذا العالم نؤثر ونتأثر ونحن واعون بمتطلبات النهوض والتقدم مع الحفاظ على عقيدتنا السمحة، ومقومات شخصيتنا الحضارية، في عهد العولمة الجارية، إننا نريد لمجتمعاتنا الإسلامية التطور والرقي ومواكبة منطق العصر، بامتلاك التكنولوجية الحديثة التي لا تتم نهضة بدونها، لكننا في الوقت نفسه لا نريد لأجيالنا الناشئة أن تعاني الأمراض نفسها التي أفرزتها الحضارة المعاصرة، ولا سبيل إلى تحصينها في ذلك إلا بالتربية الروحية التي تغذي وجدانها ليظل نابضا بالحياة، وهذه الرسالة الجليلة والمسؤولية الثقيلة، إنما تقع على عاتقنا جميعا، وعلى أمثالكم من أهل الذكر، فإبراز البعد الروحي والجمالي والإنساني في الإسلام مهمة أضطلع بها دائما العلماء الذين يركزون تربيتهم على المحبة والتسامح والرحمة والإحسان واحترام الأديان ومقدسات الأوطان، وتحقيق الوئام بين بني الإنسان.
قال عليه الصلاة والسلام" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة "والزاهدون في الدنيا من عباد الرحمن، في مقدمة هذه الطائفة لأنهم قادرون على سبر أغوار النفس البشرية، وعلى شرح الأهواء والشهوات المتحكمة فيها، وأصول الخير والشر ونوازع النفع والضر التي فطرت عليها، لذلك كانوا هم أول من أسس في تراثنا الإسلامي علم السلوك واليقظة الروحية، فتركوا لنا أدبا صوفيا شامخا بمضمونه التربوي الروحي الإنساني، إن لهم من المعرفة ومن المكانة ما يمكنهم من إبراز جوهر الحقيقة الإنسانية كما بينها القرآن الكريم.
أيها السادة الأفاضل،
لقد قيل أن التصوف إنسانية بلا مشروع وأن العولمة مشروع بلا إنسانية، و بصرف النظر إلى صحة هذا القول أو بطلانه، فإننا، لا ندعو لكي يكون التصوف بديلا للعولمة الجانحة، ولكننا ندعو بصدق إلى أن تتشرّب العولمة روح التصوف وأسسه المفعمة بالإحسان والمحبة والقناعة والدعوة إلى الحوار بين الحضارات والثقافات لا إلى صدامها، حيث يتساوى بنو البشر أمام خالقهم في الحقوق والواجبات، ولا يتفاضلون إلا بالتقوى والعمل الصالح، "إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم".
إنّ الجزائر هذا البلد الكريم قد حمل راية الإسلام خفاقة منذ أن وطئت تربته أقدام الصالحين الأوائل، ومن تبعهم بإحسان، لجدير به أن يعتز ويفاخر سائر الأمم بهذا التراث الزّاخر الذي حفظه المجتمع برمته، و خاصة الطرق الصوفية والزوايا. وما أحوجنا في هذا العالم المضطرب إلى استلهام تراثهم الغني بأبعاده الإنسانية العميقة التي يجب أن تغرس في دروبنا الشائكة كمعالم نهتدي بها وأجيالنا اللاحقة للوصول إلى عالم المحبة والسلام والوئام والمصالحة، ونتجنب الغوص في متاهات الحيرة والخلاف والفرقة التي كان نتيجتها عنف مدمّر كاد يأتي على الأخضر واليابس لولا الرعاية الإلهية ويقظة المخلصين ودعاء الصالحين من أبناء هذه الأمة.
إنّ التصوف لا يعني الابتعاد عن المساهمة في الجهد البشري لخير الإنسان، والكف عن أداء عمله الدنيوي، الذي يحتسبه الله له يوم يقوم الأشهاد، ولكن التصوف الحقيقي يكمن أساسا في معرفة الله وتطبيق أوامره وتجنب نواهيه عملا بقول أبي الحسن الشاذلي " أعرف الله وكن كيف شئت" لأن معرفة الله حق معرفته هي التي تجنب الإنسان الانزلاق إلى مهاوي السوء والعصيان، ومن نعم الله علينا أن من علينا بهذه الطريقة المباركة التي يدعو فيها أبو العباس أحمد التجاني إلى ضرورة الالتزام بالحقيقة والشريعة والتوفيق بين الظاهر والباطن والاستِرشاد بالسنة المحمدية ، وهو القائل " إذا سمعتم عني شيئا فزنوه بميزان الشرع فإن وافق فاعملوا به وإن خالف فاتركوه". وأيُّ كلام أوضح من هذا يحض الشيخ فيه أتباعه على التمسك بأهداب الشّرع وتتبع المنهاج القويم، وما أحوجنا جميعا إلى هذه التعاليم السّمحة وأسأل الله أن يلهمنا إلى ما فيه صلاح معاشنا ومعادنا.
أيها السادة الأفاضل،
وقد تلقيت بعظيم التقدير وجميل الود دعوتكم الكريمة، التي كان أملي تلبيتها، لولا ضرورات ملحة حالت دون ذلك، فأرجو أن تتقبلوا عذري ، وأسأل الله لكم جميعا دوام العناية والتوفيق، وأن يكلل جهودكم بالنجاح والسؤدد ، وأن يؤيد العلي الجليل مسعى الجميع لما فيه الخير واليمن والبركات.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته