بسم الله الرحمن الرحيم
االصـــلاة الســلام على سيــدنا الأميـن
الصلـة بيـن الداريـن عيـن ماضـي وتماسيــن
أولها إرسال الأمانة، ونهايتها حملها بأمانة، فكان التعارف الروحي قبل التعارف الجسدي على صاحبها علامة، وما إن ظهرت بوارق الفتح ولاحت أنواره على صاحب الختم، وتصدر للتربية، وأعطى للمشيخة حقها في طريق التزكية، فهرعت إليه النفوس الطاهرة الزكية، فقبلت يمينه وفازت بالعطية، فهنيئا لمن فاز بالسابقية وهنيئا لمن أهديت له الخصوصية هبة من رب البرية، ذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم لا مانع لمن أعطى ولا معطي لمن منع يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
فأخذ اللواء بيمينه، له القيادة، وسار بالركب من حينه للاستفادة، فأول من بايعه أبناء سيده والنخبة المختارة من القادة، الذين حضروا العطية وشاهدو المزية "إن الله يامركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" هكذا قالها القطب الكتوم لصاحبه وخديمه " أمرنا هذا يتلقاه حي عن حي وأنت الخليفة عليه من بعدي ولم يبق لي من الدنيا إلا ثلاثة أيام ياعلي" فذرفت عينا المتلقى وأخذته الرجفة فخرص لسانه وفقد نظامه من وقع كارثة الفراق الذي لا يطاق، ثم نظر إليه الختم الكتوم نظرة عطف وحنان فزال عنه في الحين ما كان قد لم به، فاستعاد وعيه إليه فنطق قائلا
" ياسيدي هذا الأمر لا أطيق حمله " فقال له قولا صريحا بلسان فصيح: " هكذا أراد الله وهو الفاعل لما يريد وأوصيك على أولادي وحريمي والأحباب خير فإن الله أهلك لهذا الأمر" فنطق الحاضرون لهذا المشهد الرهيب والأمر العجيب، وهم سيدي الطاهربن عبد الصادق القماري وسيدي أحمد بن سليمان التغزوتي، وسيدي علي بن أحنيش، وسيدي عبد الله بده القماريين قائلين له: ) يا سيدي هل نبايعه نحن" قال لهم: " نعم " فبايعوه بحضرة المكتوم وهؤلاء السادة لهم أقدميه السابقية بالمكتوم قبل صاحب العطية ثم التفت المكتوم لصاحبه قائلا: " أخرج الآن إلى جبل العلام ولا تأتي إلا بعد دفني وإياك أن تبقى هنا فإن روحي إذا خرجت تحمل كل شيء حوله " فقال "ياسيدي أعطني سيدي الطاهر يعاونني": فقال له "سيدي الطاهر أبقيه لنفسي" فخرج إلى المكان المعين له وما رجع إلا كما أمره سيده من حمل أبنائه إلى الصحراء، ولما خاطبهم الوصي وأراد تنفيذ الوصية أبوا ذلك وقالوا:" هذه بلادنا عشنا فيها" وربينا، فلم يستعمل معهم أي كلمة تنبئ بسوء الأدب، ثم ذهب إلى سيدي محمود التونسي في داره وهو مريض مرض الموت وقال له: "ياسيدي محمود أخرج إلى الأحباب"فتعلل له قائلا: "لا يمكني الخروج" ولازال به حتى خرج فبسط له سجادة المكتوم وقال له: " اجلس عليها فإنك أهل لها وهي أهل لك" فجلس عليها ثم رفع صوته عاليا على رؤوس الأشهاد قائلا: " أشهد أشهد أشهد أن الخلافة التجانية الكبرى هي إلى صاحب تماسين" ثم رجع إلى داره وطلب من سيدي الحاج علي أن يبقى معه إلى حين الوفاة وما قبل منه وقال:" لا أحمل للأحباب خبري خبر سيدنا وخبرك " ثم ودعه الوداع الأخير وأعطاه جيرته وفرسه والجيرة والسرج هما الآن موجودان بزاوية قمار.
وما إن استقر بتماسين حتى تقاطرت عليه الوفود من أنحاء المعمورة للتربية وأخذ العهد والمبايعة بالخلافة العظمى، حتى أتاه مكتوب من أبناء سيدنا من مدينة فاس يطلبون القدوم إليهم لأنهم قرروا الذهاب إلى الجزائر وصحرائها بالذات، وذلك هو مرغوبه ووصية شيخه، فخرج من حينه شاكرا ربه على هذا النداء المفرج، وما إن وصل إلى فاس وحط بها رحاله واجتمع بالخلفاء الذين كانوا بالحاضرة والعلماء والأمراء وسألوه عن هذه الزيارة فأجابهم :" بأن أبناء الشيخ طلبوا منه القدوم وأنهم عازمون على تنفيذ وصية والدهم"ثم طلبوا منهم أن يجتمع بهم في القصر الملكي صحبة السلطان فكان الأمر كما قالوا، واجتمعوا بمولانا السلطان سليمان، فاتفق الجميع أن تكون كلمة السلطان فهو ولي الأمر في هذا الشأن فلب سيدي الحاج علي قولهم وصوب كلامه ثم رفع رأسه إلي السلطان فقال: " يامولانا الجواب غدا فأحكم بيننا بما تراه الليلة في نومك فهل تقبل هذا" فقال:" نعم نعم" رفعت الجلسة وما إن وضع السلطان رأسه على الوسادة حتى أتاه القطب المكتوم فقال له: " دع التماسيني يفعل ما يشاء في هذا الشأن" ثم أمر السلطان جميع الحاضرين وفوض الأمر إلى صاحب تماسين، فحمل أبناء الشيخ وحريمه إلى عين ماضي لصحراء الجزائر فكان يرعاهم ويحرصهم ويمدهم بجميع ما يحتاجون إليه، والأجوبة المتبادلة بين عين ماضي وتماسين باقية شاهدة على الجنب واليقين .
فجواب التعزية ينبئنا على المكانة التي كانت في النفس الأبية والروح الطاهرة، والعقل السديد للشيخ سيدي محمد الحبيب ،وكيف تلقى صدمة الوفاة بثبات و حكمة، واستطاع من خلال ذلك ترتيب شؤون الزاوية التماسينية بحنكة حكيمة وقيادة رشيدة، فأقر كل فرد من أبناء سيدي الحاج علي التماسيني فيما أقامه والده فيه، وأختار منهم من اختاره للصلاة أن يكون خلفا عن والده ثم أوصاهم بتقوى الله وعن السمع والطاعة للخليفة وقال في وصيته: "فمن خالف أمري فأرسلوه إلينا إلى عين ماضي للتربية والتأديب، وكذلك من وقع منه الخلاف في دارنا نرسله لكم إلى تماسين للتربية " . وهذه الرسالة بخط يد سيدي محمد الحبيب ، فكانت هذه الرسالة كدستور يسار على منهاجه ويكون العمل عليه ، فسجن أولا سيدي احميده بن سيدي الحاج علي أربعة سنوات في عين ماضي، وسجن بعده ابن أخيه السيد أحمد بن سيدي محمد العيد، وسجن كذلك من أبناء الشيخ سيدي البشير بن الشيخ سيدي محمد الحبيب عاما كاملا بين تماسين وقمار، وهكذا كانت الآراء متحدة والأمر شورى، فكان كل خليفة في الدارين يرتب شؤون الدار الأخرى، ويساعد الخليفة المستخلف الجديد على تحمل المسؤولية والعبء الثقيل كما أوصى الشيخ الأكبر سيدنا ومولانا سيدي أحمد التجاني سيدي الحاج على التماسيني على داره وأبنائه وحريمه والأحباب، وأوصى سيدي الحاج علي الشيخ سيدي محمد الحبيب على أبنائه فنفذ الوصية وأدى الأمانة فكان يرعاهم ويرشدهم و يذكرهم ويعظهم وينهاهم فكانوا عند أمره ونهيه ولا يفعلون شيئاٌ ذا بال إلا بعد استشارته وإذنه فالدار واحدة والصف متحد ويقول الشيخ سيدي محمد الحبيب إلى الشيخ سيدي محمد العيد: " نحن وإياكم كفردتي الرحى من دخل بيننا طحناه" فالعواصف لا تؤثر في الصخر في قمم الجبال الشامخة ولكنها تصفر أثناء العصف فلم تلبث إلا قليلا حتى تهدأ العاصفة والجبال شامخة ثابتة راسية، وعند وفاة الشيخ سيدي محمد الحبيب كتب رسالة بخط يده قبل الوفاة حيث كان الولدان صغيران كانت الوصية أشمل وأكمل فبقيت شؤون الزاوية كما أن لو كان الشيخ سيدي محمد الحبيب حيا، وكانت القوافل قادمة من تماسين وكان المقدم ريان يستقبلها ويتصرف فيها كوكيل مفوض.
وكانت إحدى إيماء الشيخ سيدي محمد الحبيب وقعت في شجار مع نساء الشيخ ففرت وهي حاملة بسيدي أحمد عمار إلى الناحية الشرقية من الجزائر، وبالتحديد بمدينة قالمة حيث بقيت مستخدمة في إحدى بيوت المدينة، ولدت طفلا سمته أحمد عمار تيمنا بالولي الصالح سيدي أحمد بو سنة، وبعد عامين من وضعه أو ثلاثة سنين تفشى خبره وظهوره وطرق أسماع الأحباب وسمع الشيخ سيدي محمد العيد، وذلك بعد ثلاثة سنوات من وفاة والده فأرسل شيخ الزاوية التماسينية إلى عين المكان للإتيان به ووالدته ، فجيء بهما وأرسل معه وفد إلى مقر أسلافه وكانت ولادة سيدي أحمد عمار سنة 1849 م، و لما بلغ أشده مبكرا وعمره لا يتجاوز 16 سنة نصب شيخا للزاوية في شهر أوت 1865 م بتدعيم شيخ الزاوية التماسينية وأكابر المقاديم و الأحباب لكي يكون خلفا لوالده ولم يلبث إلا قيلا بعد استخلافه حتى دخل في تحالف سياسي مع سي قدور بن حمزة وعمه سي العلا قائدا ثورة أولاد سيدي الشيخ بشقيها الشراقة والغرابة ضد السلطات الفرنسية، وعندما تفطنت السلطات الفرنسية ألقت عليه القبض يوم 10فيفري 1869م وتم تحويله إلى الأغواط، ومنها إلى سجن السركاجي في الجزائر، ومنه إلى سجن بوردو في فرنسا، ومن خلال هذه الفتن كان شيخ الزاوية بتماسين متكفلا بشؤون الزاوية في جميع المجالات، رغم الحصار الخانق والرقابة المشددة وعيون الجوسسة من كل ناحية ترقب ما ينقص وما يزيد، وبحنكة وببراعة وقيادة رشيدة استطاع شيخ الزاوية بتماسين أن يغلب الحكمة على العاطفة التي لا تجدي نفعا حتى استطاع أن يخرج الشيخ سيدي أحمد عمار من السجن بفرنسا والإتيان به إلى عين ماضي.
وبعد مدة من استقراره في عين ماضي ذهب زائرا إلى وادي سوف حيث توفي بالهود بمدينة قمار و ذلك يوم 10أفريل 1897 م ودفن بزاوية قمار فلم ترضى زوجته الفرنسية المسلمة بدفنه بقمار فاستنجدت بالسلطات لإخراجه من القبر وتحويله إلى عين ماضي، وقام جمع من الأحباب لمنعهم من ذلك، ولولا تدخل شيخ الزاوية بتماسين سيدي حمه بتهدئة الموقف لوقعت مجزرة بين العدو المدجج بالسلاح والرجال العزل وتم نقله إلى عين ماضي ودفن بالمكان المعروف بكردان فخلفه أخوه سيدي البشير بتدعيم من الشيخ سيدي حمه وأكابر المقاديم، وبقيت أمور الزاوية قائمة على المنهاج الذي سلكه والدهم الشيخ سيدي محمد الحبيب.
فالصف متحد واللحمة واحدة في السراء والضراء لا تبديل لما قرره الأسلاف ولا تغيير، فالقطار سائر تحت لواء القيادة الرشيدة بحكمة بارعة حسب متطلبات الوقت والزمان، وما تمليه الظروف "وبسير زمانك سر" فالإنسان الذي ركب الجمل والحمار هو راكب للسيارة والقطار، وهو راكب على الطائرة والصاروخ يتكيف مع الوقت ويدور معه حيث ما دار وتبقى الثوابت ثابتة لا تؤثر فيها العوامل الظرفية، فالشريعة باقية حيثما كانت كما في الصدر الأول، والإيمان راسخ في قلوب المومنين والله على كل شيء شهيد، فليس لأحد أن يبدل أو يغير لا في الشريعة التي هي أصل ولا في الطريقة التي هي منها وإليها، فالمعبود هو الله الذي لا شريك له، فقد أوصى الشيخ رضي الله عنه بمحبة بعضنا البعض، وأن ننبذ الأحقاد وأن نبتعد عن كل ما ينفر القلوب، وأن لا يؤذي أحد منا أخاه فالمؤمن أخ المؤمن لا يظلمه ولا يثلمه فهذه هي طريقتنا و هذا هو منهاجها و الحكم هو الكتاب والسنة.
ويقول الشاعر محمد العيد آل خليفة في قصيدة "بلغ النزيل" :
طريقة يسرى ودين قيــــم ما فيهما حرج ولا آصـــــار
أيليق بين المؤمنين عـــداوة أيليق بين المؤمنين شجـــــار
سبحـانك اللهم أدرك أمـــة حلت بها النكبات والأضــــرار
ريعت بما يدمي القلوب وما لها من ورعـــها إلا إليك فــرار
خير الأنام محمد و أجلهم قدرا لديك وعبـدك الشكـــــــار
ووسيلة المتضرعين إذا دجـى ليلا و من البلوى وعز نهـــار