لم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها حتى صارت كالنسي المنسي، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصي عن أهله، وهو داخل تحت معنى قوله عليه الصلاة السلام: ''بدأ هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء''
ومن ها هنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من حلتهم المعروفة، فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة، ولا هي مما يلزمهم شرعا، فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم، وتكلفوا ما لم يكلفوا، ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة، وحاشا الله ما كانوا ليفعلوا ذلك، وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة، وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة، لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام، ونصوص التنزيل المكي الذي لم ينسخ، وتنزيل أعمالهم عليه تبين لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء وباتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر، فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم، فقال أما على مذهبنا فالكل لله، وأما على مذهبكم فخمسة دراهم، وماأشبه ذلك، علمت أن هذا يستمد مما تقدم، فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ولم يبين فيه الواجب من غيره، بل وكل إلى اجتهاد المنفق ،لا شك أن منه ما هو واجب، ومنه ما ليس بواجب، والاحتياط في مثل هذا مبالغة في الإنفاق في سد الخلات وضروب الحاجات، إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق، فأخذ هذا المسؤول في خاصة نفسه بما أفتى به، والتزمه مذهبا في تعبده، وفاء بحق الخدمة وشكر النعمة، وإسقاطا لحظوظ نفسه، وقياما على قدم العبودية المحضة، حتى لم يبق لنفسه حظا، وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السماوات والأرض، وأنه قال: ''لا نسألك رزقا نحن نرزقك''، وقال: ''ما أريد أن يطمعون'' وقال: ''وفي السماء رزقكم وما توعدون''، ونحو ذلك، فهذا نوع من التعبد لمن قدر على الوفاء به
ومثله لا يقال في ملتزمه'' إنه خارج عن الطريقة، ولا متكلف في التعبد، لكن لما كان هذا الميدان لا يسرح فيه كل الناس قيد في التنزيل المدني حين فرضت الزكوات فصارت هي واجبة انحتاما، لا تتعدى إلى ما دونها، ويبقي ما سواها على حكم الخيرة، فاتسع على المكلف مجال الإبقاء جوازا، والإنفاق ندبا، فمن مقل في إنفاقه ومن ومكثر، والجميع محمودون، لأنهم لم يتعدوا حدود الله
ومنهم من لاينتهي في الإنفاق إلى إنفاذ الجميع، بل يبقي بيده منه شيء، متحملا منه أمانة لا ينفك عنها إلا بنفاذه أو كالوكيل فيه لخلق الله، سواء عليه أمد نفسه منه أم لا، وهذا كان غالب أحوال الصحابة، ولم يمن إمساكهم مضادا لاعتمادهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى وأما من أبقى لنفسه حظا فلا حرج عليه، وقد أثبت له حظه من التوسع في المباهات على شرط عدم الإخلال بالواجبات -''الشاطبي-''